تماشيا مع الاحتفاء باليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف الثالث من ماي من كل سنة، اختار الجسم الصحفي، في هذه السنة، شعار: صحافة في عالم جديد وشجاع: تأثير الذكاء الاصطناعي على حرية الصحافة والإعلام.
ففي الوقت الذي قد يساهم فيه الذكاء الاصطناعي في تسريع نشر الأخبار وتحليل المعطيات، إلا أن الصحافة الحرة تبقى في مواجهة الصعوبات المتزايدة الناتجة عن التستر المؤسسي على قضايا بيئية هامة.
تعد قضية DuPont في ولاية ويست فيرجينيا تعد مثالا حيا على قدرة الصحافة الاستقصائية على فضح الممارسات المدمرة للبيئة، رغم محاولات الشركات الكبرى التستر عليها. فهذه القضية تظهر بوضوح كيف يمكن للإعلام الحر أن يتصدى للمصالح الاقتصادية الكبيرة التي تهدد صحة الإنسان والبيئة، ويؤكد أهمية أن تظل الصحافة أداة قوية للكشف عن الحقائق، حتى في ظل التحديات الجديدة التي يفرضها التقدم التكنولوجي.
ففي نهاية التسعينيات، لم يكن أحد يتصور أن مادة شفافة تستخدم في طلاء أواني المطبخ ( التيفلون ) قد تخفي خلفها واحدة من أضخم الفضائح البيئية في تاريخ الولايات المتحدة. بدأت القصة في ولاية ويست فيرجينيا، حيث لاحظ مربو ماشية نفوق عشرات الأبقار بطريقة غامضة، ليتبين لاحقا أن السبب يعود إلى تلوث مياه النهر المحلي بمادة كيميائية تدعى C8، وهي مركب اصطناعي مقاوم للحرارة والماء كانت تستخدمه شركة DuPont العملاقة في صناعاتها منذ عقود.
لكن المفاجأة لم تكن فقط في المادة أو مصدرها، بل في حجم التستر، فقد كشفت تحقيقات قانونية، مدعومة بعمل صحفي استقصائي دؤوب، أن الشركة كانت على علم بمخاطر المادة منذ السبعينيات، دون أن تتخذ أي إجراءات لحماية السكان أو تحذير السلطات.
وخلال سنة 2016، نشرت صحيفة يويورك تايمز The New York Times تحقيقا شاملا بعنوان “المحامي الذي أصبح كابوس دوبونت”، سلط الضوء على جهود المحامي روبرت بيلوت، الذي قاد معركة قانونية شرسة استمرت لأكثر من 15 سنة، مدعومة بوثائق داخلية سرية. وقد ساعد هذا التحقيق في تنبيه الرأي العام، وتحفيز وسائل إعلام عالمية لفتح ملف الملوثات الصناعية مجددا.
النتائج لم تكن فقط إعلامية، فقد واجهت شركة DuPont دعاوى قضائية بمئات الملايين من الدولارات، وتم سن تشريعات تقيد استعمال المادة C8. كما تحولت القضية إلى فيلم سينمائي شهير بعنوان Dark Waters سنة 2019، ووثائقي Netflix The Devil We Know، مما وسع نطاق الوعي حول المخاطر البيئية المغطاة بالسكوت المؤسسي.
تعد هذه القضية نموذجا عالميا يجسد العلاقة الوثيقة بين حرية الصحافة، وحق المواطن في المعلومة، والعدالة البيئية. ففي عالم تعلو فيه أصوات المصالح الاقتصادية، تبقى الصحافة الحرة هي الملاذ الأخير للطبيعة ولحقوق الأجيال القادمة.