المقدمة
*في ظل التحولات العالمية المتسارعة، لم يعد الحديث عن النمو الاقتصادي ممكنا دون ربطه بالعدالة البيئية والاجتماعية. ويأتي الاقتصاد الأخضر، ثم الاقتصاد الدائري، كرافعتين أساسيتين لتحقيق هذا التوازن، خاصة في بلدان مثل المغرب، التي تواجه تحديات بيئية ومائية ومجالية متزايدة، لكنها تزخر في الوقت نفسه بإمكانات واعدة ومبادرات رائدة.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية القيادة البيئية النسائية ليس فقط من زاوية الإنصاف الجندري، بل كضرورة استراتيجية لإدماج رؤى جديدة في تصور السياسات البيئية وتنفيذها. فالمرأة ليست فقط فاعلاً أساسياً في الحفاظ على الموارد البيئية في الوسطين الحضري والقروي، بل هي أيضًا قوة اقتراح ومبادرة قادرة على قيادة الانتقال نحو أنماط إنتاج واستهلاك أكثر استدامة.
المحور الأول: من الاقتصاد الأخضر إلى الاقتصاد الدائري – أي أفق للانتقال؟
- الاقتصاد الأخضر كما ورد في تقرير 2013، للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ليس فقط خياراً بيئيا، بل هو فرصة تاريخية لخلق الثروات ومناصب الشغل، من خلال برامج الطاقات المتجددة، والنجاعة الطاقية، وتدبير النفايات، والتطهير السائل.
- يتجاوز الاقتصاد الأخضر بإرسائه نموذجا إنتاجياً واستهلاكيا قادرا على كسر منطق التبذير والتلويث، نحو منطق تثمين الموارد، وإعادة التدوير، وإعادة الاستخدام، مما يعزز القدرة التنافسية ويحسن جودة الحياة.
- المغرب انخرط في هذا المسار من خلال استراتيجيات وتقارير توصي بوضع خطة وطنية شمولية، وبإنشاء هيئات تنسيق، وتحيين الترسانة القانونية، وتوجيه التمويل نحو الاقتصاد الدائري.
وتكرس ضرورة احترام البيئة وتهدف إلى الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر وتعزيز مبادئه على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي. وبالفعل يعتبر الاقتصاد الأخضر أحد المحاور الرئيسية لهذه الاستراتيجية، والدي يندرج من خلاله 7 رهانات و31 موضوعًا فرعيًا و131 هدفًا … وفي حالة احترام المحاور المحددة، فستساهم الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة بما يعادل 4 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وخلق 000 25 منصب شغل ونسبة 2 ٪ في القدرة التنافسية للفاعلين الاقتصاديين.
تقدر كمية النفايات على المستوى الوطني في سنة 2015 (السنة المرجعية) بنحو 26.8 مليون طن، موزعة على النحو التالي :
– كمية النفايات المنزلية والمشابهة لها في الأوساط الحضرية 5.9 مليون طن؛
– كمية النفايات المنزلية والمشابهة لها في المناطق القروية بـحوالي1.5 مليون طن؛
– كمية النفايات الصناعية 5.4 مليون طن؛
– نفايات البناء والهدم بحوالي 14 مليون طن.
وسترتفع الكمية الإجمالية للنفايات من 26,8 مليون طن سنة 2015 إلى 37 مليون طن سنة2030، أي بزيادة 46٪. ويبين الجدول التالي توزيع هذه النفايات على المستوى الوطني حسب نوع النفايات وحسب الجهة.
أظهرت الدراسة أن كمية النفايات المنزلية والمماثلة لها، في سنة 2015 قدرت ب 5.936.392 طن وأن الكمية القابلة للتدوير تصل إلى 1.446.136 طن في السنة. وتبلغ الكمية التي يتم تدويرها343.971 طن أي ما يعادل %6 من الكميات المنتجة بالنسبة لسنة 2015.
والخلاصة في هذا المحور هي أنه إذا كان الانتقال نحو اقتصاد دائري هو التحول الهيكلي الأعمق الذي يواجه المغرب، فإن نجاحه لن يكون ممكنًا دون قيادة نسائية بيئية، قادرة على الجمع بين تدبير الموارد، العدالة الاجتماعية، والإبداع المحلي.”
ويمكن توضيح ذلك من خلال فكرتين:
· الفكرة الأولى: الاقتصاد الدائري يتطلب قيادة تحويلية تشاركية – والنساء يجسدن هذا النمط من القيادة.
فالاقتصاد الدائري ليس مجرد تغيير تقني، بل تحول ثقافي وسلوكي عميق، يتطلب قيادة قادرة على تعبئة المجتمعات، تغيير العقليات، وتحقيق العدالة في توزيع الموارد.
والنساء، بما يتوفر لديهن من حس مجتمعي، اهتمام بالبعد الاجتماعي، وتجربة يومية في تدبير الندرة والتثمين، يجسدن شكلًا من القيادة التشاركية والمسؤولة، وهو بالضبط ما يحتاجه الاقتصاد الدائري.
إذن: عندما نتحدث عن الاقتصاد الدائري، فإننا نتحدث ضمنيًا عن نمط قيادة جديدة… والنساء مؤهلات لقيادته.
· الفكرة الثانية: من تدبير الندرة في الحياة اليومية إلى قيادة استدامة الموارد في السياسات
النساء، خصوصًا في المناطق القروية، لطالما كن في موقع مواجهة مباشرة مع الأزمات البيئية: ندرة الماء، تدهور الأراضي، الغلاء، إلخ. هذه التجربة تُكوِّن حسًا عمليًا ومهارات في التدبير الذكي للموارد.
وهذه التجربة، إذا تم تحويلها إلى رأسمال قيادي، يمكن أن تغذي السياسات العمومية بالبراغماتية والفعالية الضروريتين لنجاح الانتقال الدائري.
إذن: ربط النساء بمواقع القرار البيئي ليس فقط مسألة تمكين، بل هو أيضًا رافعة لنجاح السياسات البيئية نفسها.
المحور الثاني: الرهانات البيئية ومكانة القيادة النسائية في تدبيرها
- تبرز أهمية القيادة النسائية المؤثرة:
- في الجماعات المحلية: النساء المنتخبات يمكن أن يساهمن في مراجعة عقود التدبير المفوض لإدماج التثمين في تدبير النفايات.
- في القطاع الاقتصادي: المقاولة النسائية الخضراء يمكن أن تصبح رافعة لتثمين الموارد المحلية وخلق فرص الشغل المستدامة.
- في المجتمع المدني: النساء رائدات في مبادرات الفرز من المصدر، الفلاحة الإيكولوجية، التربية البيئية، وتوعية الأسر حول الاقتصاد في الماء والطاقة.
- تمكين النساء في هذه القطاعات يتطلب إزالة العقبات البنيوية، ودعم التكوين والتمويل، وإدماج بعد النوع الاجتماعي في السياسات البيئية بشكل صريح وملزم.
القيادة البيئية المطلوبة اليوم هي قيادة قريبة من المواطن، شمولية في رؤيتها، وعادلة في اختياراتها وهذه سمات جوهرية تتجسد في كثير من التجارب القيادية النسائية عبر التراب المغربي.”
وهنا أيضا نقدم فكرتين للتوضيح:
· الفكرة الأولى: من السياسات الكبرى إلى الفاعلين المحليين – النساء كقادة للحكامة البيئية المجتمعية.
أهمية العدالة المجالية، والإنصاف في الولوج إلى الموارد، والاعتماد على فاعلين محليين في تنفيذ السياسات البيئية.
والنساء، خصوصًا في العالم القروي والهامشي، هن الأقرب إلى التربة والماء والطاقة في حياتهن اليومية، وبالتالي لهن موقع استراتيجي في تنفيذ وتحقيق أهداف هذه السياسات.
إذن: لا يمكن تحقيق الاستدامة بدون إشراك النساء في اتخاذ القرار، ليس فقط كمستفيدات، بل كقائدات محليات في مجال حماية وتدبير الموارد.
· الفكرة الثانية: الحكامة البيئية تحتاج إلى منظور شمولي – والقيادة النسائية تحمل هذا البُعد التكاملي
فتدبير الموارد اليوم لا يتعلق فقط بالتقنيات، بل بدمج أبعاد متعددة: بيئية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية.
والقيادة النسائية، بطبيعتها التشاركية والعابرة للقطاعات، تدمج بين الاهتمام بالإنسان والبيئة، وبين المعاش اليومي والرؤية الاستراتيجية، ما يجعلها مؤهلة لإعطاء مضمون ملموس لتوصيات المجلس المتعلقة بالحكامة البيئية المتكاملة.
إذن: إن حضور النساء في مواقع التأثير ليس ترفًا، بل ضرورة لضمان نجاعة وتكامل السياسات البيئية.
المحور الثالث: من التوصيات إلى الفعل – أي دور للنساء في أجرأة الاقتصاد الدائري؟
- ضرورة الانتقال من التوصيات إلى التفعيل، وطرح جملة من الإجراءات التشريعية والمؤسساتية والمالية.
- يمكن للقيادات النسائية أن تلعب دوراً محورياً في:
- قيادة التغيير داخل الجماعات المحلية عبر دعم مشاريع الفرز والتثمين والتطهير الدائري.
- الضغط من داخل المجتمع المدني والقطاع الخاص لاعتماد آليات المسؤولية الموسعة للمنتج ومبادئ الملوث المؤدي.
- إدراج الاقتصاد الدائري في السياسات الترابية وتوجيه التمويلات نحو المبادرات الخضراء النسائية.
- المشاركة في إعداد خارطة الطريق الجهوية للاقتصاد الدائري.
وخلاصة هذا المحور هي أن الانتقال البيئي ليس فقط تحديًا بيئيًا، بل هو فرصة تاريخية لبناء اقتصاد إدماجي. وإن كانت النساء في مقدمة المتضررين من الأزمات البيئية، فإنهن أيضًا في مقدمة الفاعلين القادرين على تقديم حلول مبتكرة وشاملة، إذا ما أُعطين موقعًا قياديًا داخل هذه الدينامية.”
وسيرا على نفس المنهج نقدم فكرتين للتوضيح أكثر:
· الفكرة الأولى: الاقتصاد الأخضر لا ينجح بدون عدالة إدماجية – والنساء في قلب هذا الرهان
فالفرص الاقتصادية الناتجة عن الانتقال البيئي (كالطاقة المتجددة، الاقتصاد الدائري، الفلاحة المستدامة…) تمثل مجالات واعدة لتمكين النساء اقتصاديًا، خصوصًا في العالم القروي والهش.
غير أن هذا لن يتحقق تلقائيًا، بل يتطلب سياسات مواكِبة تعترف بدور النساء في الابتكار المحلي، وتفتح لهن مسارات التكوين والتمويل والقيادة.
إذن: القيادة البيئية النسائية ليست فقط مطلبًا حقوقيًا، بل ركيزة لضمان نجاح الانتقال البيئي كرافعة للتنمية العادلة والمستدامة.
· الفكرة الثانية: النساء كحاملات لمبادرات الاقتصاد الأخضر المحلي – من المبادرات الصغرى إلى التغيير الهيكلي
فالعديد من التجارب الناجحة في الاقتصاد الأخضر (مثل التعاونيات الفلاحية النسائية، مشاريع تثمين النفايات، وحدات إنتاج محلية للطاقة الشمسية…) تُظهِر قدرة النساء على قيادة مشاريع خضراء ذات أثر اجتماعي واقتصادي وبيئي.
وهذه التجارب، رغم محدودية دعمها أحيانًا، تُثبت أن القيادة النسائية يمكن أن تُحدث تغييرًا بنيويًا إذا تم الاعتراف بها وتمكينها.
إذن: تشجيع القيادة البيئية النسائية هو استثمار استراتيجي في اقتصاد المستقبل.
الخاتمة: من أجل قيادة نسائية بيئية شجاعة
الانتقال نحو اقتصاد دائري وأخضر في المغرب ليس فقط ضرورة بيئية، بل هو اختيار تنموي مستقبلي، يفرض إعادة النظر في أنماط الإنتاج، الاستهلاك، والحكامة. ولإنجاح هذا الانتقال، لا بد من قيادة نسائية واعية، مقتدرة، ومؤثرة قادرة على الدفع في اتجاه العدالة المناخية والاجتماعية والمجالية.
إن تأهيل النساء للعب أدوار قيادية في هذا المجال يجب ألا يُنظر إليه كإجراء إدماجي فقط، بل كاستثمار استراتيجي في بناء نموذج تنموي أكثر عدلاً واستدامة وشمولاً.
_____________
مداخلة الدكتورة نزهة الوفي خلال أشغال
المائدة المستديرة من تنظيم فيدرالية سيدات الاعمال والمهن المغرب. BPW-MAROC
يوم 15 ماي 2025
موضوعها: «نحو قيادة نسائية مؤثرة: من أجل إدماج اقتصادي وولوج فعلي إلى مراكز القرار في المغرب «