عبد اللطيف الحاجي يكتب .. في مفهوم العدالة المناخية والمسؤوليات التاريخية لقوى الاستعمار

ECO1712 يناير 2025
عبد اللطيف الحاجي يكتب .. في مفهوم العدالة المناخية والمسؤوليات التاريخية لقوى الاستعمار
عبداللطيف الحاجي - رئيس جمعية نظرة للثقافة والإعلام ومهتم بقضايا الشأن العام

العدالة المناخية مفهوم وحركة اجتماعية تسلط الضوء على الأبعاد الأخلاقية والإنسانية المرتبطة بتغير المناخ، حيث يرى مؤيدو هذا المبدأ أن تداعيات التغير المناخي لا تتوزع بشكل متكافئ، إذ تتحمل الفئات الضعيفة والمهمشة غالبا النصيب الأكبر من الآثار السلبية.

وتهدف العدالة المناخية إلى معالجة هذا التفاوت من خلال ضمان أن تكون السياسات والتدابير المناخية منصفة، متوازنة، وشاملة لمختلف الفئات الاجتماعية.

نشأ مصطلح العدالة المناخية خلال ثمانينيات القرن العشرين، مستندا إلى فكرة أن المسؤولية التاريخية عن تغير المناخ تقع بشكل أساسي على الدول الغنية والأطراف ذات النفوذ، بينما تتضرر منه بشكل غير متناسب المجتمعات الأكثر فقرا وهشاشة.

نود هنا أن نركز على مفهوم “العدالة المناخية” كما قدمه الفيلسوف الأمريكي ذو الأصول النيجيرية أوليفمي تايو في كتابه “إعادة النظر في مسألة التعويضات” الصادر سنة 2022، يعد طرحا فلسفيا جديدا في سياق النقد الموجه لنظرية العدالة لجون راولز. يرى تايو أن راولز اختزل مفهوم العدالة في توزيع الموارد داخل المجتمع، دون مراعاة الإمكانات الفعلية المتاحة للأفراد للاستفادة منها.

يلاحظ أن تايو يستلهم بشكل واضح من نظرية “الكفاءات/القدرات” للفيلسوف والاقتصادي الهندي أمارتيا سن، إلا أنه يقدم ملاحظتين نقديتين جوهريتين:

ـأولا: يفترض راولز أن مبادئ العدالة يجب أن تطبق بالكامل داخل المجتمع المنظم، الذي يعرفه في إطار الدولة الوطنية فقط، ما يؤدي إلى تجاهل مظاهر الظلم ذات الأبعاد التاريخية والعالمية، مثل الإرث الاستعماري وتأثيرات الثورة الصناعية على التفاوت المناخي والبيئي. وهكذا، ينحصر تركيز راولز على العدالة الداخلية، مغفلا إشكاليات العدالة العابرة للحدود الوطنية.

ـ ثانيا: يعتمد تصور راولز للعدالة خلف “حجاب الجهل” على مقاربة آنية ومباشرة تتجاهل التأثير التاريخي في تشكيل القيم والاختلالات الاجتماعية، وهو أمر بالغ الأهمية عند النظر في جذور الظلم البيئي والاقتصادي الحالي. وهنا يركز تايو على الأبعاد التاريخية للهيمنة الاستعمارية، من تجارة الرقيق إلى الاستيطان الزراعي القمعي، ويبرز أثرها المستمر في الأزمات المناخية الحالية، حيث يعتبر أن الإرث الاستعماري ليس مجرد فصل من الماضي، بل واقعا حاضرا ينعكس في الظروف المعيشية والبيئية الراهنة.

لا يرى تايو أن هذه المسائل ناتجة عن سياسات قديمة تم تجاوزها، بل هي امتدادات لأنماط اقتصادية واجتماعية ما زالت فاعلة، وستستمر في تشكيل العالم مستقبلا. وهو يشير، في هذا السياق، إلى استمرار تأثيرات الاستعمار من خلال السياسات الحضرية التي أخلت بالتوازنات الاجتماعية التقليدية، والممارسات الاقتصادية التي استنزفت البيئة، والأنظمة الصناعية والطاقية التي أطلقت شرارة التدهور الإيكولوجي.

من هذا المنطلق، يتبنى تايو مفهوم “العدالة التعويضية”، الذي يتجاوز التصور النظري والمجرد للعدالة المرتبط بالقوانين الكونية، إلى رؤية عملية تدعو إلى إلزام الجهات المسؤولة عن الأضرار البيئية بتقديم تعويضات ملموسة للمتضررين. ويرى أن الأمم المتحدة قد قدرت حاجة الدول النامية إلى حوالي 387 مليار دولار سنويا للتكيف مع التغيرات المناخية، وهي كلفة تعجز تلك الدول عن تحملها دون دعم خارجي كاف.

بالنسبة لتايو، تحقيق العدالة المناخية لا يمكن أن يحدث إلا عبر مراجعة جذرية للنماذج الصناعية والتنموية المهيمنة عالميا، وتعويض الدول التي تعرضت للاستعمار عن قرون من الاستغلال البيئي، من خلال خطوات عملية مثل إلغاء الديون السيادية لهذه الدول وتمكينها من الانتقال إلى اقتصاديات نظيفة ومستدامة.

هذا الطرح الفلسفي الذي قدمه تايو تحت مفهوم “العدالة التعويضية” بات يحظى بوزن كبير في النقاش الأكاديمي المعاصر، ضمن تيار “الحقوق التمييزية المنصفة” المنتشر في الأوساط الفكرية الأمريكية. ومع ذلك، يثير هذا المفهوم تعقيدات فلسفية مرتبطة بمفارقة السعي لتحقيق العدالة العالمية عبر خرق بعض مبادئها الكونية، مما قد يؤدي إلى خلق أشكال جديدة من التفاوت تتطلب لاحقا إعادة شرعنة قيمية.

الخلاصة أن تايو يدعو إلى توسيع مفهوم العدالة ليشمل البعد المناخي، مع ضرورة التركيز على سياسات دولية تضامنية حقيقية، بعيدا عن الحلول التعويضية الرمزية التي قد تفشل في معالجة جذور الظلم المناخي المستمر.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق