رمضان بين الجوهر المكتوم والشكل المعلوم

ECO1715 مارس 2025
رمضان بين الجوهر المكتوم والشكل المعلوم
صورة للكاتب و الشاعر باسو أوجبور
باسو أوجبور

شهر رمضان هو الذي نزل فيه القرآن الكريم، وهو أعظم شهور السنة لأنه يسمو بروح الإنسان إلى أعلى الدرجات، كون المؤمن يقوم فيه الليل ويمسك عن الشهوات والملذات نهارا.

وقد كتبه الله علينا، كما هو شأن الأمم السابقة، كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: “كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” الآية 183 من سورة البقرة. وقد يسر الله على المؤمنين من خلال قوله تعالى كُتب عليكم الصيام بدل فُرض عليكم، وأعتقد أن كُتب عليكم أيسر وأخف من فُرض، لأن الفرض جازم لا خيار ثاني معه، بينما كُتب يحتمل خيارا ثانيا يكمن في إطعام ستين مسكينا.

وقد كانت مختلف الشعوب والأمم في معظم الملل والنحل تصوم وتمسك عن الشراب والطعام والجنس، وحتى عن الكلام والعمل عند البعض.

نجد الصوم عند غالبية الأمم السابقة بشكل مطابق في جوهره، ومختلف في شكله باختلاف الشرائع والمعتقدات. الصوم في المسيحية يختلف عن الصوم في اليهودية، والزرادشتية تختلف عن الهندوسية، ويختلف الصيام عند الفراعنة عن الإغريق مثلا في الشكل، ولكن يتفق الجميع في جوهره الذي يكمن في كبح جماح النفس والهوى، والتحكم في الغرائز وتغليب العقل على النزوات والشهوات.

الصبر والتحمل هو السبيل الوحيد والأوحد لضبط وتهذيب وترويض النفس الأمارة بالسوء، وبالتالي فالصبر هو الجوهر الحقيقي لفلسفة الصيام. مَن لم يصبر على الجوع والعطش وهو يزاول عمله بكد وتفانٍ وإتقان فلا أظنه قد صام. ومن يغضب أو يتكاسل، ويتخذ رمضان منديلا يتمسَّح به عيوبه ويبرر به أخطأه، فلا أعتقد أنه يفهم جوهر فلسفة الصيام.

الإيمان الصادق القائم على إدراك معاني فلسفة الصيام يقتضي منا أن نضاعف العمل في رمضان بكامل الجد والإتقان والإخلاص، وبذلك ننهك الجسد الذي يعد الجزء المادي فينا. وفي المقابل نصبر ونتحمل كي نقوي الروح متحملين الجوع والعطش الشديد، وحين نفطر نكتفي بحبات من التمر وجرعة ماء مع قليل من الطعام، لا أن نصوم نهارا ونسرف في البذخ ليلا، كأننا نقلب النهار ليلا والليل نهارا. أظن أن مِن معاني فلسفة الصيام الترفع والتنازل على الكماليات لصالح مَن يفتقر إلى الضروريات. ما نصوم عن أكله وشربه نهارا ينبغي أن نبحث عن مَن هم أحق به من الفقراء والمساكين، وليس أن نتدارك الأمر ونلتهمه ليلا حتى التخمة، ونخرج لصلاة التراويح لتساعدنا حركات الصلاة على الهضم!

الصدقة في رمضان ليست التصدق بما تبقى من طعام، أو ما يريد المرء التخلص منه، أو بقطع نقود معدنية لم يعد يفرح بها حتى الأطفال، بل برصيد شهر من العمل، أو على الأقل التصدق بما نحن في حاجة إليه.

ينبغي أن يملي الضمير والإيمان على المؤمن التنازل عن الكماليات والشهوات، هذه المرة لصالح المحرومين من أشقائه وشقيقاته في الإنسانية الذين يفتقرون إلى أبسط ضروريات العيش.

لا أظنه قد صام من يتقلب في فراشه طيلة النهار منتظرا سماع صوت الآذان، ومؤجلا كل أنشطته الى ما بعد صلاة المغرب. ولا أعتقد أنه صام من بقي في أريكته الجلدية في مكتب بمكيف الهواء. كما لا أدري ما إن كان الصوم صحيحا لدى من يفطر بأشهى المأكولات المكدسة فوق الموائد يمشي نصفها في ما بعد إلى الأزبال. أتساءل ما إذا كان الصوم مقبولا لمن يبذر نعمة الله وهو يدرك أن هناك أناسا يحلمون بأكل وجبة دسمة ذات يوم؟. الصدقة ليست هي أن تتصدق بالحريرة والشباكية، ولكن الصدقة هي أن تبحث عن من تجوز فيه الصدقة فتمنحه مبلغا من المال يعينه على إكراهات الزمن.

لا أتصور مؤمنا يعبد الله عبادة سليمة ويتقرب الى الله مالم يتشبع بمباديء العدل، ولا أظن أن الله يُعبد بقلب أناني لا يفكر إلا في نفسه، وفي أحسن الأحوال في عائلته. المؤمن الحقيقي يرى في الناس عائلته الكبيرة، الكبار أعمام وأخوال والصغار أبناء وأحفاد.

الصائمون الحقيقيون بيننا هم أولئك العمال الذين يتصببون عرقا من فرط التعب والعياء بأمعاء فارغة ولا يفكرون إلا في إتقان العمل ولو على حساب أجسادهم المنهكة، وحين يقترب الآذان يهرولون كي يجدون رغيفا من الخبز ويتبادلون حبات من التمر بمجرد سماع تكبيرة الآذان.

الصائمون هم عمال الأفران والمصانع، يتعرضون لحرارة شديدة تفقد أجسادهم كل السوائل التي تختزنها. الصائم هو ذلك السائق الذي يقطع آلاف الكيلومترات خلف مقود الشاحنة أو السيارة ويسابق الزمن كي يوصل حمولة الأمانة في الوقت والمكان المناسب. الصائم بيننا هو ذاك الطبيب الذي يتنقل بين غرف الإنعاش في المستشفيات والمصحات لإنقاد الناس، ولا يستثمر في العقارات أو يمتلك ضيعات فلاحية تسقى بدماء المرضى. الصائم هو الأستاذ الذي يكد ويجتهد في إخراج عصارة أفكار عقله فيدخلها بمرونة في دماغ مَن لايفهمها، وما أن ينهي الدرس حتى يلتحق ببيت الجيران للشروع في دروس الدعم والتقوية. الصائم هو ذاك الموظف الذي يتسلل رفاقه هربا من الواجب، ويبقى وحيدا في مكتبه كي يقضي حوائج الناس. والصائم هو الفلاح الوفي للأرض، يحرث دون كلل أو ملل لعله ينتج زرعا أو خضروات ينتفع بها الإنسان. أولئك وهؤلاء هم الصائمون الحقيقيون، ويحق لهم الخروج بعد الإفطار لأداء صلاة التراويح وليس أولئك الذين يتنقلون بين الجوامع حتى يراهم الغير ويتباهون بمعرفة أسماء المساجد، بينما لم يسلم من لغوهم حتى الأئمة، الإمام كذا لا يحسن القراءة، والإمام فلان غير حافظ لكتاب الله، وإمام مسجد كذا صوته رديء ولا يبعث على الخشوع.

يتفق جميع المؤمنين، من مختلف الملل والنحل، على الصيام، ويختلفون حول الشكل وعدد الأيام والأسابيع والشهور، حتى جاء الإسلام، فرتبه وفصله في الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم، وجعل له عيدا، إحتفالا وتتويجا بالإنتصار على الذات، وقهر النفس والهوى. معظم الناس لايدركون جوهر فلسفة الصيام وأسباب تشريعه، فهناك من يرى في سببه حِميَة للتخلص من الأمراض مستندا في ذلك على حديث يقول: “صوموا تصحوا”، ولكن هذا الحديث ضعيف ويفتقر إلى إسناد صحيح، حسب الكثيرين مثل النسائي والطبراني. حتى إذا سلمنا بهذا الرأي تبقى المسألة نسبية، وإلا ما كان يجب أن يصوم إلا المرضى.

في المقابل، يعتقد البعض أن سبب تشريعه تعذيب النفس ابتغاء مرضاة الله، وهذا الرأي أيضا مردود عليه، لأنه، والعياذ بالله، يعطي انطباعا ساديّا، حشى عن الله، جلت قدرته وهو أرحم الراحمين.

من وجهة نظري، أظن أن الصراع والنزاع الأبدي بين الناس، منذ غابر الأزمان إلى يومنا هذا، إنما حول ثلاثية الماء والطعام والجنس. وأسباب الفتن والمحن منذ الأزل إنما من أجل الثلاثية السالفة الذكر، فالصراع والاقتتال والعنف من أجل شبر من الأرض، أو الحدود الفاصلة بين حقل وآخر، إنما يعتبر من أجل الطعام ولو بشكل ضمني. وكل نزاع حول المياه، سواء مياه الري، أو الآبار والسواقي، إنما يُعد نزاعا من أجل الطعام. كما أن جرائم الشرف والعنف الزوجي يدخل ضمن الصراع من أجل غريزة الجنس.

وفي الأخير، فثلاثية الماء والطعام والجنس هي سبب المحن والفتن على مر التاريخ، وباعتبار هذه الثلاثية سبب الفتن والاقتتال، ما فتئت البشرية تبحث لها عن حلول مثل الأعراف والتشريع وسن القوانين، حتى جاء الدين بتشريع واحد هو الإضراب عن الطعام والشراب والجنس عبر الصوم. وبذلك يكون الدين قد أسس ركنا ساميا من أركان الإسلام قائما على الصبر والإمساك ومحاربة الذات مدة شهر كامل. إن أول ما يبدأ به المؤمن الصوم هو نية الإمساك ومحاربة النفس وقمع الشهوات، ومن انتصر في معركته ضد الذات طيلة شهر رمضان فقد أفلح، ويحق له تتويج انتصاره باحتفال بهيج يتجلى في عيد الفطر.

وقبل أن يتجمل ويتعطر للاحتفال بالعيد يجب عليه إخراج زكاة الفطر، التي هي مجموع ما تنازل عليه من خيرات طيلة شهر رمضان وتقديمها للفقراء. أما مبلغ زكاة الفطر المتعارف عليه بين عامة الناس فتلك زكاة الفطر التي أوجبها الدين على الفقراء أنفسهم في مابينهم. لا أعتقد أن من لم يهزل جسمه خلال رمضان يستحق الإحتفال بعيد الفطر، بل ينبغي له تحاشي الظهور وترك هذه المناسبة العظيمة ليحتفل بها الشجعان الأبطال الذين انتصروا على النفس والهوى طيلة شهر رمضان.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق