تعد التسربات النفطية من أخطر الكوارث البيئية التي تهدد النظم البيئية البحرية والبرية على حد سواء، حيث تؤدي إلى أضرار جسيمة على الكائنات الحية، لا سيما الطيور والثدييات البحرية التي تعتمد على التوازن البيئي في بقائها، حيث تتعرض هذه الكائنات إلى تأثيرات مباشرة وغير مباشرة نتيجة تلامسها مع النفط، مما يهدد حياتها ويفرض تحديات كبيرة على جهود المحافظة على البيئة.
وفي ظل هذه المخاطر، برزت مبادرات إنسانية فريدة تهدف إلى حماية الكائنات المتضررة، من بينها مبادرة “سترات البطاريق” التي لاقت تفاعلا واسعا، وأظهرت كيف يمكن لتصرف بسيط أن ينقذ أرواحا عديدة.
أسباب التلوث النفطي وتأثيره على الكائنات الحية
تتعدد أسباب التسرب النفطي، ولكن يبقى السبب الرئيسي هو الحوادث الصناعية المرتبطة بإنتاج ونقل النفط، مثل حوادث السفن الناقلة، انفجارات الآبار النفطية، وانكسار خطوط الأنابيب. كما أن الممارسات غير القانونية، كتفريغ المخلفات النفطية في البحر تزيد من خطورة هذه الظاهرة.
وغالبا ما تقع هذه التسربات في المناطق القريبة من السواحل، حيث تتجمع الطيور البحرية والثدييات، مما يجعلها عرضة لأضرار جسيمة.
وتشمل التأثيرات المباشرة للنفط على الكائنات الحية التسمم، وفقدان القدرة على العزل الحراري، والاضطرابات السلوكية، والإصابة بالأمراض، مما يؤدي إلى معدلات نفوق مرتفعة. على سبيل المثال، تسبب حادث التسرب النفطي لشركة بريتيش بتروليوم سنة 2010 في نفوق أكثر من 8000 طائر وسلحفاة وثدييات بحرية، خلال ستة أشهر فقط.
الأنواع الأكثر تضررا من التسرب النفطي
- الطيور البحرية: تعد الطيور أكثر الكائنات تضررا عند حدوث تسرب نفطي، حيث يؤدي تغطية ريشها بالنفط إلى فقدانها القدرة على الطفو والعزل الحراري، ما يعرضها لخطر الغرق أو الموت بسبب انخفاض درجة الحرارة، ومن بين أكثر الأنواع تضررا البطاريق، الغطاسيات، البجع، وطيور النورس,. وعندما تحاول الطيور تنظيف نفسها من النفط باستخدام مناقيرها، فإنها تبتلعه، ما يؤدي إلى تلف أعضاء الكبد والكلى والجهاز التنفسي.
ويؤثر النفط أيضا على البيض الذي تضعه الطيور، حيث يمكن لكمية صغيرة منه (5-20 ميكرولتر) أن تقتل الأجنة داخل البيض، كما أن الطيور الملوثة بالنفط قد تنقل التلوث إلى أعشاشها مما يهدد صغارها.
- الثدييات البحرية: تتعرض الثدييات البحرية مثل الحيتان، الدلافين، الفقمات، وثعالب البحر لتأثيرات مدمرة عند ملامستها للنفط، حيث يؤدي إلى تهيج الجلد، وضعف جهاز المناعة، وتلف الأعضاء الداخلية.
وتعد ثعالب البحر من أكثر الثدييات حساسية للنفط، إذ تعتمد على فرائها السميك للعزل الحراري، ولكن عند تغطية الفراء بالنفط، تفقد هذه الكائنات قدرتها على تنظيم حرارتها، ما قد يؤدي إلى موتها بسبب البرد.
- الزواحف والأسماك: السلاحف البحرية تتأثر أيضا عند عودتها إلى الشواطئ لوضع البيض، حيث يمكن أن تتلوث بالمخلفات النفطية، ما يقلل من فرص بقاء الأجنة. أما الأسماك والمحار فتتعرض للتسمم نتيجة امتصاص النفط عبر الخياشيم أو استهلاكه من خلال السلسلة الغذائية، حيث تتراكم المواد السامة في أنسجتها، ما يجعلها خطيرة حتى على الحيوانات والبشر الذين يتناولونها.
طرق تشخيص وعلاج الحيوانات المتضررة
يمكن اكتشاف الحيوانات المصابة بالنفط من خلال الفحص البصري، حيث تظهر مغطاة بطبقة زيتية لامعة أو تتصرف بشكل غير طبيعي. في بعض الحالات، يمكن تشخيص التأثيرات الداخلية من خلال تحليل أنسجة الكبد والكلى، التي غالبا ما تحتوي على تركيزات عالية من الهيدروكربونات النفطية.
عند العثور على حيوانات ملوثة بالنفط، يجب تنظيفها بعناية باستخدام سوائل خاصة لإزالة النفط دون التسبب في أضرار إضافية. بعد التنظيف، توضع هذه الحيوانات في بيئة آمنة حتى تستعيد عافيتها. ومع ذلك، فإن نسبة قليلة فقط من الحيوانات تنجو، ما يجعل الوقاية من التسربات النفطية أكثر أهمية من علاج آثارها.
مبادرة “سترات البطاريق”: إنقاذ الطيور بلمسة إنسانية
في مواجهة هذه المخاطر، ظهرت مبادرات إنسانية فريدة لإنقاذ الكائنات المهددة، ومن أبرزها مبادرة “سترات البطاريق”، التي أطلقتها مؤسسة بطاريق جزيرة فيليب الأسترالية، حيث جاءت الفكرة بعد اكتشاف أن البطاريق التي تتعرض للتلوث النفطي تحاول تنظيف ريشها، مما يؤدي إلى ابتلاعها لمواد سامة قد تودي بحياتها. لذلك، تم تصميم سترات صوفية صغيرة تغطي أجسام البطاريق المتضررة، لمنعها من ابتلاع النفط حتى يتم تنظيفها بشكل كامل.
ومن بين أبرز المشاركين في هذه المبادرة كان ألفريد ديت، الذي اعتبر أكبر رجل في أستراليا، حيث ولد سنة 1905 وعاش أكثر من قرن.
بدأ ديت تعلم الحياكة في ثلاثينيات القرن الماضي واستمر في ممارستها حتى بعد بلوغه 109 سنوات، وعندما طلب منه المساعدة في حياكة سترات البطاريق، استجاب بحماس، وكرس جهده، حتى أيامه الأخيرة، لإنقاذ هذه الطيور من كارثة بيئية.
وأثبتت هذه السترات فعاليتها بشكل كبير، حيث ساعدت في إنقاذ 96% من البطاريق المصابة خلال حادثة تسرب نفطي سنة 2001. ومع ذلك، توقفت المؤسسة لاحقا عن استخدام هذه السترات بعدما طورت طرقا أكثر كفاءة للعناية بالبطاريق المتضررة.
لكن هذه المبادرة تبقى مثالا ملهما على كيفية تسخير المهارات الشخصية لخدمة البيئة وإنقاذ الكائنات المهددة بالانقراض.
كيف نحمي الحياة البرية من التسربات النفطية؟
تؤكد هذه الحوادث أن التسربات النفطية ليست مجرد كارثة بيئية، بل هي تهديد مباشر للحياة على الأرض، والحل لا يكمن فقط في تنظيف الحيوانات المصابة، بل في اتخاذ تدابير وقائية مثل تعزيز صيانة الناقلات وخطوط الأنابيب، وتشديد القوانين البيئية للحد من التسربات، وتطوير تقنيات أسرع لاحتواء النفط عند انسكابه.
كما أظهرت مبادرة “سترات البطاريق”، فإن أبسط الأفعال يمكن أن تصنع فرقا كبيرا، سواء كان ذلك عبر التطوع، أو دعم منظمات الحفاظ على البيئة، أو نشر الوعي حول مخاطر التلوث النفطي، فإن كل جهد يساهم في حماية كوكبنا والحفاظ على توازن الحياة البرية للأجيال القادمة.