يقدم التقرير العربي للتنمية المستدامة 2024، الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، التابعة للأمم المتحدة تحليلا عميقا حول التحديات والفرص التي تواجه الدول العربية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول سنة 2030. ويركز التقرير على تأثير الأزمات العالمية والإقليمية، مثل جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية، على الجهود الرامية لتحقيق هذه الأهداف، كما يناقش التحديات الهيكلية التي تؤثر على التقدم، مثل تغير المناخ، الأمن الغذائي، والفقر.
-التحديات الإقليمية والبيئية
يشير التقرير إلى أن المنطقة العربية من أكثر المناطق تضررا من التغير المناخي، إذ تعاني من ارتفاع درجات الحرارة، ندرة المياه، وتواتر الفيضانات والجفاف، كل هذه العوامل تؤثر بشكل كبير على الأمن الغذائي، خاصة أن معظم الدول العربية تعتمد بشكل كبير على الواردات الغذائية، حيث تعتمد حوالي 40% من التغذية في الدول العربية على الاستيراد. كما يضيف التقرير أن الأزمة الغذائية تفاقمت بشكل كبير بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، والتي أثرت على سلاسل الإمداد العالمي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقص في الإمدادات.
وبالإضافة إلى التحديات البيئية، يشير التقرير إلى أن النزاعات في دول مثل اليمن وسوريا وليبيا والعراق قد أدت إلى تدهور حاد في مؤشرات التنمية، حيث أن هذه النزاعات لم تؤثر فقط على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في تلك الدول، بل أسهمت في تراجع كبير في التنمية البشرية بشكل عام. ناهيك عن معاناة هذه الدول من انهيار البنية التحتية، ارتفاع معدلات الفقر، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، والذي يجعل من الصعب والمستحيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة فيها.
-الاستجابات الوطنية والإقليمية
استجابت معظم الحكومات العربية للأزمات المتتالية من خلال تبني سياسات تهدف إلى تخفيف التداعيات الاقتصادية والاجتماعية على السكان، فعلى سبيل المثال، تبنت العديد من الدول العربية سياسات لحماية الفئات الأكثر ضعفا، مثل النساء والشباب والعاطلين عن العمل، في محاولة للتخفيف من حدة الأثر الاجتماعي. ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن هذه السياسات غالبا لم تكن كافية أو متناسقة، مما أدى إلى نقص فعالية الجهود المبذولة.
يؤكد التقرير أيضا على أهمية التعاون الإقليمي لمعالجة التحديات المشتركة، بحيث يعتبر التعاون في مجالات مثل الأمن الغذائي وإدارة الموارد المائية والتغير المناخي من الحلول الأساسية لتعزيز القدرة على الصمود أمام الأزمات. كما يقدم توصيات بضرورة تكثيف الجهود لإنشاء تحالفات إقليمية بهدف بناء استراتيجيات شاملة للأمن الغذائي والمائي، فضلا عن تعزيز التكامل الاقتصادي والتكنولوجي بين الدول العربية.
-الاتجاهات الناشئة في السياسات
ومن بين الجوانب الإيجابية التي أشار إليها التقرير هو التوجه نحو اعتماد سياسات تدعم التنمية المستدامة في الدول العربية، حيث أحرزت العديد من الدول تقدمًا في صياغة استراتيجيات للطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر.
هذه السياسات جاءت في إطار الالتزامات باتفاق باريس للمناخ، حيث حددت العديد من الدول العربية أهدافا لزيادة استخدام الطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات الكربونية. ومع ذلك، يشير التقرير إلى الحاجة الماسة لتوفير موارد مالية إضافية لدعم تنفيذ هذه السياسات وضمان استمراريتها.
وفي مجالات أخرى، يسلط التقرير الضوء على التقدم في تحسين التعليم وتنمية المهارات كجزء من استراتيجيات التنمية المستدامة. كما يوصي بتعزيز الاستثمار في التعليم، وخاصة التعليم الفني والتقني، الذي يعد أساسا لتحقيق نمو اقتصادي طويل الأجل. ويؤكد على أن تطوير أنظمة تعليمية مبتكرة تعتمد على التكنولوجيا وتحفيز الابتكار سيكون له أثر إيجابي كبير على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة في ظل تزايد أهمية التحول الرقمي في الاقتصادات الحديثة.
-التوصيات والسياسات المستقبلية
كما يتضمن التقرير مجموعة من التوصيات التي تهدف إلى دفع عجلة التنمية المستدامة في المنطقة العربية، من أهمها :
1. تعزيز التكامل الإقليمي: يدعو التقرير إلى تعزيز التعاون بين الدول العربية في مجالات الأمن الغذائي، وإدارة الموارد المائية، والطاقة، كما يشير إلى أن إنشاء أنظمة إقليمية لاحتياطيات الغذاء يمكن أن يسهم في تقليل تبعية الدول العربية للواردات الغذائية ويعزز الأمن الغذائي.
2. تحسين الحوكمة والمساءلة: أهمية تعزيز الحوكمة والمشاركة المجتمعية في صنع السياسات، بحيث يجب أن تكون السياسات الحكومية شفافة وقابلة للمساءلة، مع إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
3. التركيز على الفئات المهمشة: تحسين السياسات الاجتماعية والاقتصادية للفئات الأكثر ضعفا، مثل النساء والشباب واللاجئين. كما يجب أن تهدف السياسات إلى تعزيز إدماج هذه الفئات في سوق العمل وتحسين وصولها إلى الخدمات الأساسية.
4. تعزيز التحول الرقمي: ضرورة تعزيز التحول الرقمي في المنطقة العربية. يوصي بزيادة الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتحسين الوصول إلى التكنولوجيا لتسريع النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة.و يعتبر التحول الرقمي أحد الأدوات الأساسية لتمكين الشباب وتطوير المهارات اللازمة لسوق العمل الحديث.
5. تمويل التنمية: تحقيق أهداف التنمية المستدامة يتطلب توفير موارد مالية كبيرة. ويوصي بتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وزيادة التعاون الدولي لتأمين التمويل اللازم. ويشير التقرير أيضا إلى أن الدول العربية بحاجة إلى تحسين إدارة مواردها المالية وتنويع اقتصاداتها لتقليل الاعتماد على النفط وتعزيز استدامة النمو الاقتصادي.
-العقبات التي تواجه التمويل
و يؤكد التقرير العربي للتنمية المستدامة 2024 على أن مسألة التمويل تمثل تحديا كبيرا للدول العربية، خاصة في ظل الأزمات المالية التي تعاني منها بعض الدول. فالإضافة إلى نقص الموارد المالية، تواجه الدول العربية صعوبة في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة نتيجة لعدم الاستقرار السياسي في بعض الدول. كما يعاني القطاع الخاص في العديد من الدول من نقص في التمويل وغياب الحوافز المالية التي تشجع على الابتكار والاستثمار في مشاريع التنمية المستدامة.
يشير التقرير كذلك إلى أن السياسات المالية التي تبنتها بعض الدول لا تزال تفتقر إلى الفعالية، حيث لم تحقق الحوافز الضريبية التي قدمتها بعض الحكومات جذبا كافيا للاستثمارات. لذلك، يوصي بضرورة تبني سياسات مالية جديدة تهدف إلى دعم الابتكار وريادة الأعمال، وزيادة الشفافية في إدارة الأموال العامة لتعزيز الثقة بين المستثمرين.
وفي الختام يخلص التقرير العربي للتنمية المستدامة 2024 إلى أن تحقيق أهداف التنمية المستدامة في المنطقة العربية يتطلب تغييرات جوهرية في صنع السياسات على الصعيدين الوطني والإقليمي، كما يجب أن تستند هذه السياسات على أسس مثينة من الحوكمة الشفافة والشاملة، مع تعزيز التعاون بين مختلف الأطراف الفاعلة. و أشار التقرير أيضا إلى أن تحويل السياسات الطموحة إلى واقع ملموس يتطلب موارد مالية كبيرة، إلى جانب التزام سياسي قوي من الحكومات، وبالتالي يجب أن يكون هناك تركيز خاص على الفئات الأكثر ضعفا والمهمشة لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية .