شهد المغرب في العقود الأخيرة تطورا حضريا متسارعا، مما فرض على السلطات الوطنية والمحلية تبني استراتيجيات تخطيطية حديثة تواكب التنمية المستدامة في المدن، مع مراعاة الأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصادية، حيث تهدف هذه السياسات إلى تشييد مدن مستدامة قادرة على التكيف مع التحولات المناخية، وتحقيق توازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة.
في تصريح لجريدة “إيكو17“، أكد الأستاذ والخبير البيئي والمناخي مصطفى بنرامل أن المدن المغربية أصبحت مراكز رئيسية للنمو الاقتصادي، حيث توفر فرص الشغل، وتشكل فضاءات للابتكار وتطوير التكنولوجيا، لكنها في الوقت ذاته تعد من أبرز مصادر انبعاثات غازات الدفيئة، موضحا أن هذه المدن تواجه تحديات بيئية معقدة، إذ تعاني من التلوث الهوائي الناجم عن الأنشطة الصناعية والاستهلاك المتزايد للطاقة، إلى جانب تداعيات التغيرات المناخية.
وشدد بنرامل على أن المدن الحديثة يجب أن تتسم بالقدرة على التكيف والصمود في وجه الأزمات الدولية، سواء كانت اقتصادية أو مالية أو تكنولوجية، فضلا عن ضرورة تعزيز إدارتها للموارد الطبيعية والمالية والبشرية بطرق فعالة ومستدامة.
وأشار المتحدث، استنادا إلى معطيات المختبر الوطني لمراقبة جودة الهواء التابع لوزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، إلى تسجيل ارتفاع مقلق في نسب الغازات الدفيئة، خاصة ثاني أكسيد الكربون، نتيجة عدة عوامل رئيسية، أبرزها:
- تزايد الأنشطة الصناعية في المدن الكبرى، خاصة تلك التي تضم وحدات صناعية ضخمة.
- ارتفاع أعداد وسائل النقل، من سيارات خاصة وشاحنات وحافلات، مما أدى إلى تفاقم الانبعاثات الملوثة.
- زيادة نسبة الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء، والتي لا يتجاوز قطرها 2.5 ميكرون، وهي من أخطر ملوثات الهواء، إذ تؤثر سلبًا على المناخ والصحة العامة، خاصة عند الأطفال ومرضى الجهاز التنفسي.
- انبعاثات المصانع ومحطات توليد الطاقة الحرارية، حيث تعتمد بعض المدن مثل آسفي، العيون، طانطان، الداخلة على محطات تعمل بالفحم الحجري أو الفيول، مما يساهم في ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين.
- الأنشطة الفلاحية في المناطق القروية، التي تنتج كميات كبيرة من غاز الميثان بسبب استخدام الأسمدة الكيميائية ونفايات المواشي.
أكد الخبير المناخي أن مواجهة التلوث الهوائي تتطلب تكثيف الجهود وتفعيل سياسات بيئية أكثر صرامة، مع التركيز على الإجراءات التالية:
- تعزيز وسائل النقل العمومي الصديقة للبيئة، عبر تشجيع الحافلات الكهربائية أو التي تعمل بالغاز الطبيعي في المدن الكبرى.
- تقنين الانبعاثات الصناعية، وإلزام المصانع بتطبيق معايير صارمة للحد من الملوثات.
- تحسين إدارة النفايات، خاصة في المناطق التي تعاني من مطارح مفتوحة تزيد من نسبة التلوث.
- محاربة التلوث الناتج عن الصناعات التقليدية، مثل الأفران التقليدية لصناعة الفخار، التي تعد من المصادر الملوثة للهواء.
- تعزيز برامج التوعية البيئية، لتحفيز المواطنين والقطاعين العام والخاص على تبني سلوكيات صديقة للبيئة.
في ختام تصريحه، شدد الخبير البيئي على ضرورة تبني مقاربة مندمجة وشاملة للحد من آثار التغيرات المناخية، مشيرا إلى أن هذه المقاربة يجب أن تقوم على تعزيز الاستراتيجيات البيئية المستدامة، وتكثيف الجهود البحثية والعلمية لفهم ديناميكيات التلوث بشكل أكثر دقة، فضلا عن تطوير حلول تكنولوجية صديقة للبيئة.
وأكد بنرامل على أهمية تعاون جميع الفاعلين، سواء في القطاع العام أو الخاص، في تنفيذ سياسات فعالة لمكافحة التلوث الحضري، وتشجيع الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة، وتحسين أنظمة النقل الجماعي للحد من الانبعاثات الغازية، مشددا على ضرورة إشراك المجتمع المدني والجامعات في وضع برامج توعوية لتعزيز ثقافة الاستدامة البيئية، وتعزيز التشريعات التي تفرض معايير بيئية صارمة على الأنشطة الصناعية والحضرية.
وفي سياق متصل، دعا المتحدث إلى ضرورة اعتماد تخطيط حضري ذكي يأخذ في الاعتبار التغيرات المناخية، ويعتمد على حلول مبتكرة مثل إنشاء فضاءات خضراء داخل المدن، وتعزيز البنية التحتية البيئية، وتشجيع تقنيات البناء المستدام، كما هو الشأن في منطقة “القطب المالي” بالدار البيضاء و مدينة زناتة الإيكولوجية و المدينة الخضراء ببوسكورة و غيرها. مشددا على أن مواجهة التحديات البيئية تتطلب التزاما جماعيا ومسؤولية مشتركة لضمان بناء مدن مغربية أكثر استدامة وقدرة على التكيف مع التحولات المناخية العالمية.