كيف أعاد مسجد الحسن الثاني تعريف العمارة الساحلية الحديثة ؟

ECO177 ديسمبر 2025
كيف أعاد مسجد الحسن الثاني تعريف العمارة الساحلية الحديثة ؟
إيمان بنسعيد

في قلب الدار البيضاء، حيث يتعانق هدير الأطلسي مع نبض المدينة الحديثة، ينتصب مسجد الحسن الثاني كأحد أعظم المنجزات الروحية والهندسية التي عرفها المغرب في العصر الحديث. يتقدم هذا الصرح فوق البحر ويتمدد على منصة بحرية جريئة، في ترجمة حرفية لرؤية ملكية أرادت أن تجعل من العاصمة الاقتصادية فضاء يحتضن الروحانية والجمال الهندسي معا، ويعكس قدرة الإنسان المغربي على صون تراثه وتطويره عبر فنون الزليج والنجارة والرخام والتشكيل المعماري. ومع كل زيارة، يكتشف الزائر أن المسجد ليس مجرد مكان للصلاة، بل هو فضاء بيئي وثقافي وحضاري مفتوح على الطبيعة والتاريخ والمستقبل في آن واحد.

يعد المسجد من أعظم المشاريع الدينية والمعمارية في تاريخ المغرب الحديث، إذ يجمع بين التقليد المغربي الأصيل والتكنولوجيا المعاصرة. فمنذ تدشينه في صيف 1993، ظل نقطة جذب للزوار والباحثين، بفضل موقعه البحري الفريد وإطلالته الأطلسية ورمزيته المستمدة من عمق الهوية المغربية. وقد تم تشييده على مساحة تسعة هكتارات، بني ثلثاها فوق الماء في إنجاز هندسي استثنائي تطلب استخدام خرسانة خاصة مقاومة للملوحة وطبقات متعددة من العزل، إضافة إلى أنظمة دقيقة لصرف المياه ومنع التآكل، مما يجعل المسجد نموذجا عالميا للهندسة الساحلية وطرق تكييف العمارة مع البحر.

يقف المسجد شامخا على الواجهة الأطلسية للدار البيضاء، وقد استلهم الملك الراحل الحسن الثاني فكرة تشييده “على الماء” من قوله تعالى: «وكان عرشه على الماء». اختير الموقع ليكون جسرا بصريا وروحيا بين البحر والمدينة، بين الطبيعة والعمران، في توازن يمنح الزائر إحساسا بالسكينة والانفتاح. وقد صممت منصة المسجد البحرية لحماية البناية من الرطوبة والأمواج، ولتحقيق تهوية طبيعية فريدة بفضل الرياح القادمة من البحر.

انبثقت فكرة البناء بعد زيارة رسمية للملك الراحل إلى الدار البيضاء عقب وفاة والده الملك محمد الخامس، حيث تعهد بإقامة مسجد يليق بالمدينة ويخلد ذكرى الراحل. تحولت الفكرة إلى ورش وطني ضخم شارك فيه آلاف الحرفيين والمهندسين، وساهم المواطنون في تمويله عبر اكتتاب وطني غير مسبوق، تعبيرا عن ارتباطهم بالرمزية الروحية والمعمارية للمسجد. ووضع حجر الأساس في يوليوز 1986، تحت إشراف المهندس الفرنسي ميشيل بانسو وشركة بويغ، بينما وضع الحرفيون المغاربة بصمتهم في الزليج والجبس والرخام والخشب المنحوت.

يمتد المسجد على أكثر من 93.000 متر مربع، وقد شيد باستخدام أكثر من 300 ألف متر مكعب من الخرسانة، و40 ألف طن من الفولاذ، و53 ألف متر مربع من الأسقف الخشبية المنحوتة من أرز الأطلس وصنوبريات المغرب. وتزين الأعمدة والقباب والزوايا زخارف جبسية ونحاسية ورخامية تجعل كل ركن لوحة فنية قائمة بذاتها. أما الصومعة، البالغ ارتفاعها 210 أمتار، فتعد من أعلى الصوامع في العالم، وتطلق شعاعا ليزريا يصل إلى 30 كيلومترا يشير نحو مكة.

تتسع قاعة الصلاة الكبرى لـ25 ألف مصل، بينما تستوعب الساحات الخارجية 80 ألفا، ويعلو القاعة سقف خشبي متحرك يزن 1100 طن، يفتح ويغلق خلال خمس دقائق فقط، مما يسمح بدخول الهواء الطبيعي ويجسد إحدى أروع التقنيات البيئية المعمارية في العالم الإسلامي. كما يعتمد المسجد نظام تدفئة أرضية بطول 75 كيلومترا من الأسلاك، و32 مكبرا للصوت مخفية داخل الزخارف، ما يجمع بين الجمال والوظيفة.

في الطابق السفلي، تنتشر واحد وأربعون نافورة للوضوء نحتت على هيئة زهرة اللوتس، وهي زهرة محملة بدلالات صوفية عميقة في التراث الروحي المغربي، إذ ترمز إلى طهارة الباطن ونقاء السلوك، وإلى انبثاق النور من أعماق الماء كما تنبثق الهداية من صفاء القلب. وقد استعان صناع المسجد بهذه الرمزية لابتكار فضاء وضوء تتجاوز وظيفته التطهيرية ليصبح مدخلا روحيا يهيئ المصلي للانتقال من العالم الحسي إلى عالم التجلي والسكينة، وفق تصورات صوفية راسخة في تاريخ المغرب الروحي.

وتضم المرافق حمامات تقليدية ومكتبة وسائطية وأكاديمية للفنون التقليدية، مما يحول المسجد إلى مجمع ثقافي كامل. وعلى المستوى البيئي، يواصل المسجد احتضان البحر وحمايته في آن واحد، إذ تلتقي أمواج الأطلسي بواجهته البحرية في مشهد يخلق جمالية نادرة تتماهى فيها العمارة مع الطبيعة.

إن مسجد الحسن الثاني ليس مجرد معلمة دينية، بل هو مشروع حضاري وبيئي وهندسي يجسد رؤية ملكية ثاقبة، ويقدم درسا حيا في قدرة المغرب على الجمع بين الروحانية والحداثة، وبين الأرض والبحر، وبين الماضي والمستقبل. إنه رمز للهوية المغربية، ومرآة لعبقريتها الفنية، وصرح يستحق أن يبقى في الذاكرة الجماعية رمزا للجمال والإيمان والانفتاح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)

    نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

    موافق