حفريات دار البارود بسلا.. كشف أثري يعيد كتابة تاريخ المدينة العتيقة

ECO1715 مايو 2025
حفريات دار البارود بسلا.. كشف أثري يعيد كتابة تاريخ المدينة العتيقة

في زاوية خفية من المدينة العتيقة لسلا، حيث تلتقي طبقات التربة بطبقات الزمن، كشفت حفريات إنقاذية عن سر دفن لقرون: حي حرفي ضخم لصناعة الخزف، يعود إلى القرن الـ12 الميلادي، ليعيد اكتشافه كتابة تاريخ المدينة كمركز صناعي وثقافي رائد في الغرب الإسلامي.

هذا الموقع، الذي أطلق عليه لاحقا إسم “دار البارود”، لم يكن مجرد مصنع للبارود في القرن الـ19 كما ساد الاعتقاد، بل قلبا نابضا للحرفيين المغاربة والأندلسيين الذين نسجوا بإبداعهم حكاية حضارة متشابكة الجذور.

من البارود إلى الخزف: رحلة اكتشاف مذهلة
بدأت القصة سنة 2017، حين هدد مشروع بناء مركب ثقافي في موقع “دار البارود” بإتلاف آثار مدفونة، ما دفع المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، بالتعاون مع الوكالة الحضرية لأبي رقراق، إلى تنفيذ حفريات إنقاذية عاجلة. وما كشفت عنه المعاول كان مفاجأة تاريخية:
– أكثر من 50 فرنا خزفيا تعود إلى الفترة بين القرنين الـ12 والـ17.
– ورشات صناعية متكاملة لصقل الأواني وتزيينها.
– مبان سكنية ملتصقة بالمنشآت الحرفية، مما يشير إلى وجود مجتمع متكامل.

يقول البروفيسور محمد بلعتيق، الأثري المشرف على الحفريات بأن هذا الموقع يعد من أكبر الأحياء الحرفية المكتشفة في الغرب الإسلامي، ويؤكد أن سلا كانت مركزا تجاريا وحرفيا مزدهرا قبل قرون من تحولها إلى مدينة عسكرية.

من القرن الـ12 إلى الـ17: إشعاع خزفي يتحدى الزمن
كشفت الدراسات أن الموقع شهد ذروة نشاطه خلال العصر الوسيط، أي ما بين القرن الـ12 إلى الـ15، حيث انتشرت تقنيات متطورة في صناعة الخزف المزجج، قبل أن يتراجع الإنتاج تدريجيا بحلول القرن الـ17. نجد من أبرز اللقى الأثرية:
– أواني فخارية مزخرفة بخطوط هندسية وألوان زرقاء مميزة.
– بقايا أفران تظهر تقنيات حرق متقدمة.
– أدوات نحت استخدمت في نقش الزخارف.

سلا وقرطبة: تشابك حضاري عبر المتوسط
أثارت الاكتشافات جدلا علميا حول طبيعة العلاقة بين ضفتي المتوسط، بعد أن كشفت دراسات عن تشابه مدهش بين خزفيات سلا وتلك التي عثر عليها في قرطبة الأندلسية. وهنا يتساءل الباحثون حول هل نقل الحرفيون المغاربة تقنياتهم إلى الأندلس؟ – أم أن التأثير جاء مع هجرة الحرفيين الأندلسيين إلى المغرب بعد سقوط الممالك الإسلامية؟

في هذا الصدد، يوضح بلعتيق: “الخزف المغربي حمل بصمة محلية واضحة، لكن التشابه في الزخارف يدل على حوار حرفي امتد عبر البحر… إنه دليل مادي على أن سلا كانت جسرا ثقافيا بين المغرب والأندلس”.

تحديات الحفاظ على الذاكرة
رغم الأهمية التاريخية للموقع، فإن الحفريات كشفت أيضا عن أضرار بالغة سببها التدخل العمراني الحديث، ما دفع الجهات المعنية إلى إيقاف المشروع الثقافي مؤقتا ووضع خطة عاجلة لحماية الموقع وتأهيله كمتحف مفتوح.

لم تعد سلا مدينة المرابطين والقراصنة فحسب، بل أصبحت شاهدة على إبداع حرفي صنع من الطين تحفا تجمع بين الجمال والوظيفة. اكتشاف دار البارود ليس مجرد كشف أثري، بل رسالة لمنطق التهميش التاريخي، فالمدن المغربية تخفي تحت أقدامنا صفحات من المجد الحضاري، تنتظر من يقرأها بإنصاف.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept