يسجل القطب الشمالي منذ سنوات معدلات احترار غير مسبوقة، تتجسد في ارتفاع سريع في درجات الحرارة وتقلص متسارع للجليد البحري، ويعرف هذا التغير المتسارع بظاهرة “تضخم القطب الشمالي”، التي أصبحت محط اهتمام العلماء، بسبب تأثيراتها المحتملة على أنظمة الطقس في مناطق بعيدة، خصوصا أوروبا.
وأثار الباحث الفرنسي فابيو داندريا، المنتمي إلى المركز الوطني للبحوث العلمية والمعهد الدولي للعلوم الجيولوجية والفيزيائية، نقاشا علميا حيويا بنشره مقالا شاملا في مجلة La Météorologie، استعرض فيه المعارف الراهنة حول العلاقة المحتملة بين الاحترار في القطب الشمالي والتقلبات الجوية في أوروبا.
ورصد الباحثون في السنوات الأخيرة دورا متزايدا لانخفاض الجليد البحري والغطاء الثلجي القاري في زيادة امتصاص الإشعاع الشمسي على سطح الأرض، مما يرفع من حرارة الهواء القريب من السطح. هذا الخلل في التوازن الحراري يؤدي إلى اضطرابات في الغلاف الجوي، على غرار تشكل المنخفضات الجوية، وبالتالي يسهم في تعديل مصدر الظواهر المناخية.
ولاحظ العلماء أن فصل الشتاء يظهر علامات أكثر وضوحا لهذا التأثير، حيث تؤدي التغيرات المناخية في القطب الشمالي إلى احتمال حدوث انسدادات في الغلاف الجوي، مما يعزز فرص موجات برد قارسة في أوروبا، رغم الاتجاه العام نحو احترار المناخ. وتنتج هذه الظواهر عن ضعف التيار النفاث، مما يسمح ببقاء أنماط الطقس المتطرفة لفترات أطول، سواء كانت على شكل أمطار غزيرة أو جفاف شديد.
وربطت عدة دراسات بين انخفاض الغطاء الجليدي في منطقتي بارنتس وكارا شمال روسيا وبين تزايد تواتر ظاهرة الاحترار الستراتوسفيري المفاجئ (SSW)، وهي إحدى الآليات المرتبطة مباشرة بهبوط الدوامة القطبية، ما يؤدي إلى تسرب الهواء القطبي البارد نحو خطوط العرض الوسطى، كما حدث مرارا في أمريكا الشمالية وأوروبا، بما في ذلك فرنسا. لكن الباحثين ما زالوا يختلفون حول قوة هذا الرابط، في ظل غياب أدلة قطعية حاسمة.
وسجل فصل الصيف بدوره مؤشرات مقلقة لتأثير التضخم القطبي، لكن هذه المرة من خلال زيادة واضحة في انسدادات الغلاف الجوي فوق غرينلاند، وتكثف للمنخفضات الجوية في شرق المحيط الأطلسي.
وينعكس ذلك في أوروبا وأوراسيا على شكل موجات حر غير مسبوقة وهطول أمطار شديدة، ما يضاعف من حدة الظواهر الجوية القصوى خلال المواسم الحارة.
وأقر الباحث فابيو داندريا بصعوبة التوصل إلى إجماع علمي حول الصلة السببية المباشرة بين التغيرات في القطب الشمالي وتقلبات الطقس في أوروبا، مشيرا إلى أن عدم قدرة النماذج المناخية الحالية على إثبات هذه العلاقة لا يعني بالضرورة أنها غير موجودة، بل يكشف عن محدودية هذه النماذج في تتبع التفاعلات المعقدة في النظام المناخي.
وتستمر البحوث في هذا المجال وسط إدراك متزايد لأهمية القطب الشمالي كمحرك غير مباشر للطقس العالمي، وكمؤشر حيوي على عمق التحولات المناخية التي لا تعترف بالحدود الجغرافية.