الأمن الطاقي.. دروس من انهيار الشبكة الكهربائية الإسبانية

ECO172 مايو 2025
الأمن الطاقي.. دروس من انهيار الشبكة الكهربائية الإسبانية
إيمان بنسعيد

أزمة كهرباء مفاجئة تهز إسبانيا وتكشف هشاشة النظام الطاقي الحالي، لتفتح الباب أمام نقاش جاد حول ضرورة تبني الطاقات الطبيعية كمفتاح لاستدامة آمنة وعادلة، وتؤكد أهمية التكامل الإقليمي بين ضفتي المتوسط كركيزة للأمن الطاقي المشترك.

شهدت إسبانيا، في 28 أبريل الماضي، أزمة كهربائية حادة وغير مسبوقة، تمثلت في فقدان مفاجئ لأكثر من نصف القدرة الكهربائية المستهلكة يوميا. هذا الانقطاع لم يكن حدثا تقنيا معزولا، بل مؤشرا صريحا على حدود النموذج الطاقي المعتمد حاليا، خاصة في ظل الانتقال السريع إلى مصادر متجددة غير مدعومة ببنية تخزين قوية أو توزيع ذكي للطاقة.

وبينما تبدو إسبانيا في طليعة الدول الأوروبية في مجال التحول الطاقي، فإن هذه الأزمة كشفت عن ثغرات بنيوية تتطلب مراجعة جدية في فلسفة إنتاج الطاقة واستعمالها.

ارتباك شامل في القطاعات الحيوية
أدى الانقطاع الكهربائي إلى شلل جزئي أو كلي في قطاعات حيوية داخل الدولة، مما سلط الضوء على مدى اعتماد الحياة اليومية المعاصرة على الاستمرارية الطاقية، فقد توقفت خدمات القطارات والمترو، ما تسبب في ارتباك واسع في حركة النقل الحضري، وأربك جداول السفر وخلق حالات اكتظاظ غير مسبوقة. كما تأثرت البنية التحتية الصحية بشكل مقلق، حيث واجهت العديد من المستشفيات والمراكز الاستشفائية صعوبات في الحفاظ على استقرار خدماتها رغم الاعتماد على المولدات الاحتياطية.

وفي القطاع الرقمي، رصد اضطراب واسع في خدمات الإنترنت والاتصال، خاصة في المؤسسات والشركات ذات المعاملات الفورية، مما أدى إلى خسائر اقتصادية آنية وتعليق أنشطة بعض القطاعات الحساسة، بما فيها الأبناك والتأمينات. وقد سجلت شركات تكنولوجية أوروبية، مثل Cloudflare، ارتفاعا غير عادي في انقطاعات الخوادم داخل إسبانيا، مما يؤكد الترابط العضوي بين الطاقة والتكنولوجيا.

الطاقات المتجددة: وعود بلا ضمانات
رغم أن إسبانيا تعد من أبرز الدول الأوروبية في الاستثمار في الطاقات المتجددة، خاصة الشمسية والريحية، فإن هذه الأزمة طرحت أسئلة محورية حول مدى جاهزية هذه المصادر لتأمين استقرار الشبكة الكهربائية، خصوصا عند ارتفاع الطلب أو حدوث اختلالات مفاجئة. فالاعتماد المتزايد على مصادر متقطعة دون تطوير مواز لمنظومات التخزين أو إدارة الحمولة يضعف مرونة الشبكة، ويجعلها عرضة لانهيارات متكررة أو غير متوقعة.

يعكس هذا الواقع تناقضا بين الرغبة في التحول البيئي وضمان الأمن الطاقي، فرغم الإيجابيات البيئية لهذه الطاقات، يبقى غياب آليات احترازية وتخطيط ذكي للتوزيع والاستهلاك عائقا كبيرا أمام التحول الكامل نحو نموذج طاقي مستدام وقابل للصمود.

وفي هذا السياق، برزت أهمية التعاون الإقليمي الطاقي، حيث سارعت دول مجاورة مثل المغرب إلى تعزيز الربط الكهربائي مع إسبانيا، مستجيبة بسرعة للطلب الطارئ على الطاقة، وهو ما ساعد في التخفيف من وطأة الانقطاع. هذا التعاون لايعكس فقط متانة العلاقات بين ضفتي المتوسط، بل يؤكد أن الأمن الطاقي الأوروبي لا يمكن فصله عن استقرار وتكامل الضفة الجنوبية، خاصة في ظل التحديات المناخية والمجالية المشتركة.

من الأزمة إلى فرصة لإعادة التوجيه
بدل النظر إلى هذه الأزمة كفشل، يمكن اعتبارها فرصة لتصحيح المسار، إذ تفرض علينا ضرورة مراجعة جوهرية لطبيعة علاقتنا بالطاقة، من حيث المصدر وطريقة الاستهلاك، وكذلك من حيث ارتباطها بالعدالة الاجتماعية والحق في الرفاه البيئي. فالحلول المستدامة لا تقتصر على تطوير التقنيات، بل تشمل بناء سياسات تراعي التوازن بين متطلبات السوق ومحدودية الموارد، وبين الإنتاج المركزي والحلول المحلية.

إن تعزيز الإنتاج المحلي للطاقة، عبر الألواح الشمسية على أسطح المنازل أو مشاريع الكتلة الحيوية في المناطق الزراعية، يمثل خطوة نحو نموذج أكثر ديمقراطية للطاقة؛ كما أن الاستثمار في شبكات ذكية قادرة على التنبؤ بالطلب وتعديل التوزيع آنيا، يضمن تجنب حالات الانهيار، ويعزز الثقة في النظام الطاقي.

وفي الوقت نفسه، لا بد من الاعتراف بأن الطاقات الطبيعية ،بمفهومها الواسع، تحمل في جوهرها قيما تتجاوز الأرقام التقنية، فهي تتيح الانسجام مع الدورات البيئية، وتقلص التبعية للوقود الأحفوري المستورد، وتقلل من البصمة الكربونية، وتفتح الباب أمام اقتصادات محلية مبتكرة.

نحو سياسة طاقية أكثر إنصافا وواقعية
يتطلب بناء سياسة طاقية رشيدة الاعتراف بمحدودية الموارد وضرورة التوزيع العادل لها، لذلك، من الضروري دعم الأبحاث المرتبطة بالتخزين الطاقي، خصوصا الهيدروجين الأخضر، وتوسيع آليات التشجيع على الاستهلاك الذكي للكهرباء، مع تحفيز الأسر والمقاولات على الانخراط في مشاريع إنتاج الطاقة ذاتيا، وفق ضوابط بيئية وتشريعية واضحة.

فالتجربة الإسبانية الأخيرة تصلح لتكون نموذجا تحذيريا لباقي الدول التي تسير في طريق الانتقال الطاقي دون تحصينات هيكلية. فقد بات من الواضح أن أمن الطاقة ليس مسألة تقنية فحسب، بل قضية تتطلب رؤية شمولية، سياسية واقتصادية وبيئية.

كشفت أزمة الكهرباء الأخيرة في إسبانيا عن عمق التحديات التي تواجه نماذج الإنتاج الطاقي الحديثة، وأثبتت أن التحول إلى الطاقات المتجددة، رغم ضرورته، لا يمكن أن يتم بمعزل عن بناء منظومات ذكية ومتكاملة؛ فالرهان اليوم يجب أن يكون على الطاقات الطبيعية كخيار استراتيجي لا بيئي فقط، بل كوسيلة لتحقيق السيادة الطاقية، والعدالة الاجتماعية، واستدامة الرفاه.

هذه اللحظة الحرجة يجب أن تستثمر كمحفز للابتكار والتصحيح، لا كحدث عابر في تاريخ تحولات الطاقة.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept